free page hit counter
تونسوطنية

نبيل البركاتي، الرّمز الذي لا يموت.

أن تعيش من أجل « اللاشيء »، فذلك هو الموت الحقيقي…ولكن أن تموت من أجل « شيء »، من أجل فكرة، من أجل إنسان…فتلك هي الحياة الجديرة بالإحترام…

نبيل البركاتي، واحد من أولئك الذين اختاروا الحياة الثانية، التي تنكسر فيها إرادة الزمن أمام فعل الإنسان…لذلك كان يقول عنها بأنها « نسبية »، أي لا يهم إن طال عمر الإنسان فيها أو قصر، ولكن المهم هو « الفعل » بما يعنيه من صمود وإصرار وإيمان عميق بالفكرة…

وحتى لا يكون مجرد « ميقاتي » في هذه الحياة، أدرك نبيل أن « الانحياز » فعل واعي و »قصدي » وأنه المجال الحيوي الذي تتحرك فيه كل المفاهيم والأنساق والمنظومات…فاختار « الانحياز » إلى الفقراء والكادحين والعمال…وانطلقت بذلك مسيرة « المعلم الريفي » بالالتحاق بصفوف حزب العمال الشيوعي التونسي « المحظور » في سنة 1986، حيث أدرك نبيل بهذا الاختيار أنه بالإمكان تقاسم الحلم مع الآخرين ولو كانوا قلة، وأن الدروب الثقيلة قد تتحول إلى أنصاف الخطوات عندما تطأها أقدام الرفاق.

وكانت « قعفور » مدينة نبيل الصغيرة التي « تآمر » فيها على الأسياد وحرّاسهم…ودبّر فيها « المكائد » لكل الذين قطفوا أحلام المسحوقين وحرموهم حق الحياة…فاحتضنته « قعفور » مناضلا ينبض بالحياة وشيّعته شهيدا، أراد له التاريخ أن يحيي رغم الممات…

في قعفور: عيون العسس لم تكن نائمة وآذان الوشاة لم تكن غافلة، كانت ترقب سكنات نبيل وحركاته…لم يكن صاحبنا يعير هذه الأمور اهتماما كبيرا، كان مشغولا صحبة رفاقه بمآلات الأوضاع في تلك الفترة، لأن الزمن آنذاك كان يشي بتحولات تلوح في الأفق، فنظام بورقيبة العجوز بصدد إكمال دورته « الاستبدادية  الأولى » لينتخب دورته « الاستبدادية الثانية »، وفي الجهة المقابلة كان استبداد من نوع آخر يبحث عن موقع له تحت الشمس، ويخوض معركة « تنازع البقاء » مع حراس « الاستبداد القديم »، فقد كانت حركة الاتجاه الاسلامي (النهضة) آنذاك تصارع من أجل الوصول إلى سدة الحكم وجني ثمار « التحول » المرتقب.

وسط هذا كله كان نبيل « يتآمر » على المستبدين وأخلافهم، وكان منهمكا بالتفكير في توزيع بيان حزب العمال « الصراع الإخواني-الدستوري لا مصلحة للشعب فيه » (صدر في أفريل 1987)، وكان يتمنى لو أن « قعفور » تتحول ولو برهة من الزمن إلى « لوحة رسم » حتى يتسنى له اجتياح جدرانها بالمناشير والبيانات…وقد باشر نبيل مهمة التوزيع والتعليق بثبات إلى أن طالته يد الجلاد بعد أيام قليلة، ليبدأ بذلك فصل جديد في حياته بدأ بالاعتقال وانتهى بالاستشهاد (كان الزمن 28 أفريل 1987).

في غرفة التعذيب في مركز الشرطة بقعفور كان الجلاد (الحاج عمار) يجهد نفسه في التقاط الاعترافات، وكان في كل مرة  يفشل فيها يغير أسلوب التعذيب، لعل الصعق الكهربائي أجدى من اقتلاع الأظافر، ربما…يحاول « الحاج عمار » ولكنه يفشل… وفي الأثناء كان نبيل بصدد اكتشاف « الإنسان الفاعل » داخله، ولم يكن للفعل بالنسبة إليه سوى وجه واحد، وهو الصمود حتى الموت…كانت رأسه أشبه بالمنطقة المعزولة عن المشاعر والمفاهيم والمصطلحات، ولم يكن يجول فيها سوى هذه الكلمات « من تكلم خان »…

كيف يعترف نبيل على رفاقه…فهم في أقصى المناطق من « الوجدان »، وأمل الجلاد في الوصول إليهم شبيه بأمل « إبليس » في العودة إلى الجنة…الأمل المفقود أصبح حقيقة تؤرق الجلاد، فيسحب « رصاصته » ليضع حدا لهستيريا « الانتظار » على عتبات الفاه المقفل بإحكام…تتجه الرصاصة إلى رأس نبيل لتحمله « شمسا » تجول من دار إلى دار…وتسافر من قرية إلى قرية…توزع الأمل على المقهورين وتنذرهم بغد أكثر إشراقا…وتشيعه إلى أكثر المناطق « ضوءا » في تاريخ الإنسانية: إلى مجد الأبطال الحالمين الصامدين… (استشهد نبيل في 8 ماي 1987).

قعفور لم تحزن كثيرا، فقد خبأت نبيل مناضلا، وشيعته بالزغاريد شهيدا، وكتبت تاريخها الجديد بأنفاس نبيل الأخيرة المبشرة بحياة جديدة…وظل الثوار يرددون بعده سمفونية « البعث الجديد » لأن الرموز لا يموتون…ونبيل رمز لا يموت…1375019_157469144462263_881363744_n-640x400

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى